سورة إبراهيم - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


قوله: {أفي الله} مقدر فيه ضمير تقديره عند كثير من النحويين أفي إلوهية الله شك؟ وقال أبو علي الفارسي: تقديره: أفي وحدانية الله شك؟.
قال القاضي أبو محمد: وزعم بعض الناس: أن أبا علي إنما فزع إلى هذه العبارة حفظاً للاعتزال وزوالاً عما تحتمله لفظة الألوهية من الصفات بحسب عمومها، ولفظة الوحدانية مخلصة من هذا الاحتمال.
و الفاطر المخترع المبتدي، وسوق هذه الصفة احتجاج على الشاكين يبين التوبيخ، أي أيشك فيمن هذه صفته؟ فساق الصفة التي هي منصوبة لرفع الشك.
وقوله: {من ذنوبكم} ذهب بعض النحاة إلى أنها زائدة، وسيبويه يأبى أن تكون زائدة ويراها للتبعيض.
قال القاضي أبو محمد: وهو معنى صحيح، وذلك أن الوعد وقع بغفران الشرك وما معه من المعاصي، وبقي ما يستأنفه أحدهم بعد إيمانه من المعاصي مسكوتاً ليبقى معه في مشيئة الله تعالى، فالغفران إنما نفذ به الوعد في البعض، فصح معنى {من}.
وقوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} قد تقدم القول فيه في سورة الأعراف، في قوله: {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34] وجلبت هذه هناك بسبب ما يظهر بين الآيتين من التعارض. ويليق هنا أن نذكر مسألة المقتول: هل قطع أجله أم ذلك هو أجله المحتوم عليه؟.
فالأول هو قول المعتزلة، والثاني قول أهل السنة.
فتقول المعتزلة: لو لم يقتله لعاش، وهذا سبب القود.
وقالت فرقة من أهل السنة، لو لم يقتله لمات حتف أنفه.
قال أبو المعالي: وهذا كله تخبط، وإنما هو أجله الذي سبق في القضاء أنه يموت فيه على تلك الصفة، فمحال أن يقع غير ذلك، فإن فرضنا أنه لو لم يقتله وفرضنا مع ذلك أن علم الله سبق بأنه لا يقتله، بقي أمره في حيز الجواز في أن يعيش أو يقتل، وكيفما كان علم الله تعالى يسبق فيه.
وقول الكفرة {إن أنتم إلا بشر مثلنا} فيه استبعاد بعثة البشر، وقال بعض الناس: بل أرادوا إحالته، وذهبوا مذهب البراهمة أو من يقول من الفلاسفة: إن الأجناس لا يقع فيها هذا التباين.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم الإتيان بآية، و{سلطان مبين}، ولو كانت بعثتهم عندهم محالاً لما طلبوا منهم حجة، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز، أي بعثتكم محال وإلا {فأتونا بسلطان مبين}، أي إنكم لا تفعلون ذلك أبداً، فيتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة.


المعنى: صدقتم في قولكم، أي بشر مثلكم في الأشخاص والخلقة لكن تبايننا بفضل الله ومنه الذي يختص به من يشاء.
قال القاضي أبو محمد: ففارقوهم في المعنى بخلاف قوله تعالى: {كأنهم حمر} [المدثر: 50] فإن ذلك في المعنى لا في الهيئة.
وقوله: {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان} هذه العبارة إذا قالها الإنسان عن نفسه أو قيلت له فيما يقع تحت مقدوره- فمعناها النهي والحظر، وإن كان ذلك فيما لا قدرة له عليه- فمعناها نفي ذلك الأمر جملة، وكذا هي آيتنا، وقال المهدوي لفظها لفظ الحظر ومعناها النفي.
واللام في قوله: {ليتوكل} لام الأمر. وقرأها الجمهور ساكنة وقرأها الحسن مكسورة، وتحريكها بالكسر هو أصلها. وتسكينها طلب التخفيف، ولكثرة استعمالها وللفرق بينها وبين لام كي التي ألزمت الحركة إجماعاً.
وقوله: {ما لنا ألا نتوكل} الآية، وقفتهم الرسل على جهة التوبيخ على تعليل في أن لا يتوكلوا على الله، وهو قد أنعم عليهم وهداهم طريق النجاة وفضلهم على خلقه، ثم أقسموا أن يقع منهم الصبر على الإذاية في ذات الله تعالى. و{ما} في قوله: {ما آذيتمونا} مصدرية، وهي حرف عند سيبويه بانفرادها، إلا أنها اسم مع ما اتصل بها من المصدر، وقال بعض النحويين: ما المصدرية بانفرادها اسم. ويحتمل أن تكون {ما}- في هذا الموضع- بمعنى الذي، فيكون في {آذيتمونا} ضمير عائد، تقديره آذيتموناه، ولا يجوز أن تضمر به سبب إضمار حرف الجر، هذا مذهب سيبويه، والأخفش يجوز ذلك.


قوله: {أو لتعودن في ملتنا} قالت فرقة: {أو} هنا بمعنى: إلا أن كما هي في قول امرئ القيس: [الطويل]
فقلت له لا تبك عيناك إنما *** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
قال القاضي أبو محمد: وتحمل {أو} في هذه الآية أن تكون على بابها لوقوع أحد الأمرين، لأنهم حملوا رسلهم على أحد الوجهين، ولا يحتمل بيت امرئ القيس ذلك، لأنه لم يحاول أن يموت فيعذر، فتخلصت بمعنى إلا أن، ولذلك نصب الفعل بعدها. وقالت فرقة هي بمعنى حتى في الآية، وهذا ضعيف، وإنما تترتب كذلك في قوله: لألزمنك أو تقضيني حقي، وفي قوله: لا يقوم زيد أو يقوم عمرو، وفي هذه المثل كلها يحسن تقدير إلا أن.
و العودة أبداً إنما هي إلى حالة قد كانت، والرسل ما كانوا قط في ملة الكفر، فإنما المعنى: لتعودن في سكوتكم عنا وكونكم أغفالاً، وذلك عند الكفار كون في ملتهم.
وخصص تعالى {الظالمين} من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذي قالوا المقالة ناس، فإنما توعد بالإهلاك من خلص للظلم.
وقوله: {لنسكننكم} الخطاب للحاضرين، والمراد هم وذريتهم، ويترتب هذا المعنى في قوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} [إبراهيم: 10] أي يؤخركم وأعقابكم.
وقرأ أبو حيوة: {ليهلكن} و{ليسكننكم} بالياء فيهما.
وقوله: {مقامي} يحتمل أن يريد به المصدر من القيام على الشيء بالقدرة، ويحتمل أن يريد به الظرف لقيام العبد بين يديه في الآخرة، فإضافته- إذا كان مصدراً- إضافة المصدر إلى الفاعل، وإضافته- إذا كان ظرفاً- إضافة الظرف إلى حاضره، أي مقام حسابي، فجائز قوله: {مقامي} وجائز لو قال: مقامه، وجائز لو قال: مقام العرض والجزاء، وهذا كما تقول: دار الحاكم ودار الحكم ودار المحكوم عليهم.
وقال أبو عبيدة: {مقامي} مجازه، حيث أقيمه بين يدي للحساب، والاستفتاح طلب الحكم، والفتاح: الحاكم، والمعنى: أن الرسل استفتحوا، أي سألوا الله تعالى إنفاذ الحكم بنصرهم وتعذيب الكفرة، ويل: بل استفتح الكفار، على نحو قول قريش {عجل لنا قطنا} [ص: 16] وعلى نحو قول أبي جهل في بدر اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة. هذا قول أبي زيد.
وقرأت فرقة {واستفتِحوا} بكسر التاء، على معنى الأمر للرسل، قرأها ابن عباس ومجاهد وابن محيصن.
و {خاب} معناه: خسر ولم ينجح، والجبار: المتعظم في نفسه، الذي لا يرى لأحد عليه حقاً، وقيل: معناه الذي يجبر الناس على ما يكرهون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو المفهوم من اللفظ، وعبر قتادة وغيره عن الجبار بأنه الذي يأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
و العنيد الذي يعاند ولا ينقاد، وقوله: {من ورائه} ذكر الطبري وغيره من المفسرين: أن معناه: من أمامه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى {وكان وراءهم ملك} [الكهف: 79] وأنشد الطبري:
أتوعدني وراء بني رياح *** كذبت لتقصرن يداك دوني
قال القاضي أبو محمد: وليس الأمر كما ذكر، والوراء هنا على بابه، أي هو ما يأتي بعد في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحوادث بالأمام والوراء إنما هو بالزمان، وما تقدم فهو أمام وهو بين اليد، كما تقول في التوراة والإنجيل إنها بين يدي القرآن، والقرآن وراءهما على هذا، وما تأخر في الزمان فهو وراء المتقدم، ومنه قولهم لولد الولد، الوراء، وهذا الجبار العنيد وجوده وكفره وأعماله في وقت ما، ثم بعد ذلك في الزمان يأتيه أمر جهنم.
قال القاضي أبو محمد: وتلخيص هذا أن يشبه الزمان بطريق تأتي الحوادث من جهته الواحدة متتابعة، فما تقدم فهو أمام، وما تأخر وراء المتقدم، وكذلك قوله: {وكان وراءهم} [الكهف: 79] أي غصبه وتغلبه يأتي بعد حذرهم وتحفظهم.
وقوله: {ويسقى من ماء} وليس بماء لكن لما كان بدل الماء في العرف عندنا عد ماء، ثم نعته بـ صديد كما تقول: هذا خاتم حديد، والصديد القيح والدم، وهو ما يسيل من أجساد أهل النار، قاله مجاهد والضحاك.
وقوله: {يتجرعه ولا يكاد يسيغه} عبارة عن صعوبة أمره عليهم، وروي أن الكافر يؤتى بالبشربة من شراب أهل النار فيتكرهها، فإذا أدنيت منه شوت وجهه وسقطت فيها فروة رأسه فإذا شربها قطعت أمعاءه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الخبر مفرق في آيات من كتاب الله.
وقوله: {ويأتيه الموت من كل مكان}، أي من كل شعرة في بدنه، قاله إبراهيم التيمي، وقيل من جميع جهاته الست، وقوله: {وما هو بميت} أي لا يراح بالموت، وباقي الآية كأولها، ووصف العذاب بالغليظ مبالغة فيه، وقال الفضيل بن عياض: العذاب الغليظ حبس الأنفاس في الأجساد وقيل: إن الضمير في {ورائه} هنا هو للعذاب المتقدم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6